سكون مخيف يأسر بيروت منذ لحظات، يتحفّز النعاس من جديد، ويهاجم عيون الأطفال التسعة. يحضنهم النوم بحنو مهاجر عائد التقى حبيباً بعد طول غياب.
ـ يا كبدي الأولاد راحوا بسابع نومة.
تخاطب فاطمة زوجها، فيما تتفرّس عيناها ملائكتها الحزينة التي تغصّ بها الغرفة الصغيرة كعلبة سردين مغربي.
ـ آه يا فاطمة.. خلّيهن يناموا ليعوضوا السهر يلّي جمّر عيونن.
يجيب حيدر زوجته، وسحب الدّخان تتسلّل والحروف من بين شفتيه. أمّا نظره فيطير بعيداً عبر النافذة المفتوحة صوب تلال بعبدا فعرمون، حيث تجسّد عزرائيل بجيش شارون.
ـ شو قولك يا أبو علي؟ هالحالة ما إلها حل؟.. مش كرمالنا، نحن تعوّدنا عالحرب.. بس كرمال هالولاد، شو ذنبن ليشوفوا هيك شحار؟!
ـ وحدي الله يا إم علي.. بكرا بيتعوّدوا متل ما تعوّدنا. مش طالع بإيدنا شي.. الله يمضّي هالحرب على خير وسلامة.
ـ معك حق.. إذا يلّي بيطلع بإيدن منن متحركين. ما إلنا غير الصّبر.
– ولك يا عمّي ما هِنّي أساس البلا. والله ما في قِدّامنا غير إخواننا الفلسطينية المشحّرين أكتر منِّنا.. الله يكون بعونن، وين بدّن يروحوا، عالمرّيخ؟ والله بيلحقوهن حتى لهونيك!
ـ آه يا بو علي.. والله شايفتلك قصّتنا وقصّتهن صارت وحدة، نحن المحرومين بقلب بلدنا وهنّي المحرومين من بلدهم، وما إلنا غير نحط الإيد بالإيد ونتوكّل على الله.
ـ الله يجيب يلّي فيه الخير.. يلا يا إم علي خلّي عينّا تسهى شوي.
قالها وأسندا رأسيهما على الوسادة، ثمّ خيّم صمت العاصفة والقبور.
…………………………………………………………………………………
ـ إمّي.. إمّي.
تصرخ حياة وتهرع صوب والدتها التي أفاقت بحكم التعّد بلا ذهول أو مفاجأة.
ـ شو اشبك حبيبتي.. هيدي قذيفة بعيدة ما بتخوّف.. يلا يا شطّورة روحي نامي.
ـ إمّي.. خلّيني حدّك.. أني فزعانة.
ـ ما تفزعي يا روحي.. أني حدّك.
ـ عطشانة يا إمّي .. عطشانة.
ـ شو في يا فاطمة.. شو بها البنت؟
ـ متل العادة يا حيدر.. شكلو نزلت شي قذيفة بالمنطقة، ففزعت.
ـ بسيطة.. قومي جيبلها مي لتشرب وتنام.
ـ بابا.. خايفة موت متل ابن جيراننا نضال.. أني شفتو يا بابا لمّا ضهر لبرّيت البناية ليلعب، وإجت قذيفة حدّو ومات.
ـ قومي يا فاطمة عالمطبخ.. تعالي يا أمّورتي لحدّي وما تخافي، بابا حدّك.
ـ مبلا يا بابا، أني شفتو لنضال..
ـ بكفّي حبيبتي.. خلص معش تحكي.. هلّأ ماما بتجِبلك مي، لتشربي وتنامي.
ـ عيّطت عليه يا بابا.. بس ما رد.. ضل عالأرض ونزل دم كتير.. أني شفتو بعيوني لمّا وقع عالأرض، وكان في دخان كتير.
ـ …..
ـ بابا.. ليش لحتّى يقتلوه لنضال. لإنو فلسطيني؟ ومين يلّي زَت القذيفة عليه؟
ـ …..
ـ بابا.. سامعني؟!
ـ سامعك يا بيّي.. يلا يا فاطمة جيبي المي.
ـ با…
بوم.م.م.م
…………………………………………………………………………………
ـ ماتوا.. لا ما ماتوا.. ما حدا يقول ماتوا. فسفور.. شو يعني فسفور. لا.. حياة عطشانة.. آ.. عطشانة. حياتي عطشانة يا ناس.. أنا كيف قاعدة هون. حياتي عطشانة وأنا هون. لا.. ياالله يا حبيبتي.. أنا جاي لأرويكِ. أنا جاي يا بو علي.. دير بالك الأولاد مكشّفين.. غطيهن، وأنا جاي.. جاي.. جاي..ي،ي
ـ وحّدي الله يا أم علي.. صحيح حياة وأخوتها وأبوها ماتوا، بس الحياة ما رايحة تتوقّف ولا تموت. صحيح نضال ـ إبني ـ مات، بس النضال ما مات، ولا رايح يموت. هذا قدرنا يا أختي، واستهدي بالله.
ـ استهدي.. ليش استهدي.. شو فيه لحتى استهدي. أنا مَنّي كافرة ولا مجنونة.. أبو علي والأولاد ما ماتوا.. عايشين.. عايشين.. فهمانة يا أم نضال!
ـ نعم يا أم علي عايشين.. طبعاً عايشين فيكِ وفينا. الله يساعدك ويساعدنا.. الله يصبرك ويصبّرنا.. يا حق.
ـ لآ. أ. أ. أ….
من وقائع غزو لبنان عام 1982.
غزو لبنان 1982: قام العدو الإسرائيلي بعملية اجتياح شامل للأراضي اللبنانية وصولاً لاحتلال عاصمتها بيروت بقيادة جزّار صبرا وشاتيلا شارون وفرض عليها معاهدة 17 أيّار المذلّة وأهم بنودها: إلغاء حالة الحرب بين لبنان وإسرائيل، إنشاء منطقة أمنية داخل الأراضي اللبنانية تتعهد الحكومة اللبنانية بأن تنفذ ضمنها الترتيبات الأمنية المتفق عليها في ملحق خاص بالاتفاق، وذلك بالتواطؤ مع بعض القوى اللبانية العميلة. لكن الشعب اللبناني رفضها وانطلقت المقاومة للاحتلال وصولاً إلى فرض انسحاب مذل للاحتلال يوم 25/5/2000، ولا يزال الصراع مستمراً.