قصة قصيرة

النمل الأسود؟!

فضل المهلوس

ساهي بن المتوكل طفل فلسطيني، عاش بسلام في “دار السلام”، وحيد أسرة ميسورة الحال. تعلم من أبيه فن الاتكال على جيوش الآخرين ـ وما اكثرهم ـ حتى بعد أن تبدلت الأحوال من سيء إلى أسوأ في مسرحيه “الفرّ بلا كرّ”. ومنذ نعومة أظفاره شبّ على أن اليد للسلام، والفم للتقبيل، والعقل آلة حساب، والحياة أكل وشرب ولهو ولباس وتكديس مال وانتظار الفرج من المُتفرّجين.

وساهي كطبل يقرعه أقرب المقربين، وكور نفخت به الأيادي التي طوّقته بحنانها لدرجة الاختناق، وبوصلة حددت اتجاهاتها تلك الأنامل الناعمة. ساهي غدا كائناً بلا رأس أو اطراف.. هكذا ينعته أترابه المُعفّرون بالتراب.

وساهي ـ وحيد أسرته ـ أصبح وحيداً، منطوياً على نفسه، قابعاً في قفص ذهبي معزول، بعيداً عن أسراب طيور جبل الزيتون الذين صفتهم ونعتهم كذا وكيت.. كما تحدّثت عنهم والدته بنت الحسب والنسب.

وساهي ـ لو تعلمون ـ يفهم بالسياسه ما أُفهم، ويُصنّف الأعداء والأصدقاء كما لُقّن، بل ويُمارس الحرب ـ نعم الحرب ـ ولكن على طريقته الخاصة في فصل الصيف، بعيداً عن أبناء منطقته الذين احترفوا الحرب بطريقة أخرى، أجمع المُجمعون على تسميتها حرب الحجارة…

على ذاك المنوال، قضى ساهي سنوات طفولته العشر، إلى أن كان يوم، مضى فيه ليُمارس هواية الحرب في زمن الاحتراف.

ابتعد عن الفيلا الواقعة في أحد سفوح جبل الزيتون، واتخذ له مكاناً نائياً هادئاً قرب الحدود المتآكلة لأرضهم الواسعة التي أُهملت بعد أن تحوّل المزارع إلى عامل في زمن ضياع الفواصل والنقاط والحدود.

استعد ساهي لبدء معركته الصيفية الضّروس! حدد هدفه المنشود، بحث عن جيشه الأشقر وجده لحسن الحظ قريباً من موقع عدوه اللدود. انفردت أساريره، كبُرت همّته. وجرّد يديْه الغضّتيْن البضّتيْن من الجيوب، وقرع ـ منتشياً ـ طبول الحرب على طريقه الهنود الحمر، ولكن من غيركاوبوي!

حمل براحتيْه ـ حذراً ـ ما استطاع من النمل الأشقر الذي يُسمّيه بقاموسه: الجيش العربي. أفرغهما بعناية وحنان عند مدخل بيت النمل الأسود: اليهودي. فنشب بين جيشيْه الصراع المعهود.

دبّت الحماسة في قلب ساهي واهتزّت أطرافه بمفاصلها فرحاً، ما لبث أن خبا لتفوّق الفريق الآخر.

سارع إلى جيشه، أحضر المزيد من الإمدادات اإلى ساحه القتال، ثم المزيد والمزيد، إلى أن رجحت كفّة جيشه العربي. عندها رقص فرِحاً نشوانَ بهذا الانتصار، صفّق وصفّق، وتحرك مزهوّاً لجلب تعزيزات إضافية تمكّنه من حسم المعركة نهائيّاً..!

تستمر المعركة شرسة مع ذوي القبعات الخضراء المدجّجين بالاأسلحة والهراوات والتروس الزّجاجية المضغوطة، يواصل الأطفال حربهم حتى آخر حجر وقع في قبضاتهم المعفّرة، يتكاثر الجنود في الميدان كالنمل، يكرّون كرّتهم الأخيرة، بعد فرار طويل. يخترقون الإطارات المشتعلة عند مدخل “مستشفى المُطّلع) فوق قمة الجبل، ويُهرولون ككلاب صيد مسعورة خلف الأطفال الذين لاذوا بالفرار زرافات ووحدانَ…

ساهي ما يزال ساهياً، ملتهياً بانتصار جيشه، لدرجة لم ينتبه معها لهرولة مجموعة من أبناء حارته من قربه كالسهم. وَ…

“طاخ طيخ.. طيخ طاخ”. يتعالى العويل والصراخ.. صياح وشتائم تطغى على العويل والصراخ…

تخور قوى ساهي، وتتساقط قطرات دمه والعرق الصيفي، فيتهاوى طريحاً قرب جيشيْه وقد اصطبغا بالأحمر القاني، وداستهما أقدام النمل الكبير.

– نيسان 1987 عشيّة انتفاضة الحجارة

كاتب

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى