تغريه الطبيعة.. توقظه.. تنادي البراءة فيه.. يجذبه التوحّد معها.. يترك أترابه يلهون “عالي واطي” و”طمّيمة” و”عسكر وحراميّة”.. يتّجه صوب حقل الزيتون المقابل لمقرّ شرطة اللواء الجنوبي في “رأس العامود”.. يهيم على وجهه بين الأشجار.. يحاول أن يبحث عن ذاته في الوحدة.. يعتلي إحدى أشجار الزيتون الضخمة.. يعشعش بين فروع الأغصان، ويطلق العنان لأحلامه..
“لو أن لي جناحان كبيران، أطير بهما، وأُحلّق عالياً عالياً، فوق السّهول والجبال والوديان. لا أحد يوقفني، لا أحد يتحكّم بي.. أطير حرّاً حرّاً، فوق مرمى الصيّادين، فوق الجميع..”.
…………………………………………………………………………………
سرب من الطائرات الحربية يشق صفاء الفضاء مسرعاً صاخباً.. يسرق من أشعة الشمس اللماعة ويومض في عينيه، ويقرع طبلتيه، كأنه الرعد والبرق بغير أوانه.. تجفل الطيوروتبتر زقزقتها.. يتوقف استرسال شاهر وأمانيه وأحلامه..
………………………………………………………………………………..
لحظات صمت كأنها السنين..يعود الهدوء.. تستعيد الطيور صفوها وزقزقتها، ويعاود شاهر سرحانه من جديد.
“غداً عندما أكبر، سأصبح طيّاراً، أسابق الرياح والسّحاب والطيور.. لا. لا.. ستسقطني تلك الطائرات اللعينة.. سأكون طبيباً، لأُعالج أمّي وأشفي قرحتها، وأُداوي اكتئاب أبي وحزنه الدائم.. نعم سأصبح طبيباً.. لكن. قد يغلقون عيادتي، كما فعلوا مع جارنا الطبيب جورج.. لا .لن أغدو طبيباً.. بل مهندساً.. لا. ولا حتى مهندساً، كي لا أصير بلا شغل كأخي ماهر.. إذاً، ماذا سأكون.. ماذا سأفعل؟ ولماذا يسقطونني، ويغلقون عيادتي، ويقفلون أبواب الرزق في وجهي. لماذا؟!
أبي قال: إنهم احتلال. لا نسألهم لماذا وماذا يفعلون؟!
وأمي قالت: اليد قصيرة والعين بصيرة ، والكف ما بناطح مخرز؟!
وأخي ماهر قال: السن بالسن ، والعين بالعين، والبادي أظلم؟!
وجارنا الطبيب جورج قال: لا بدّ من معرفة الداء والدواء؟!
نعم، سمعت منهم كثيراً هذا الكلام. إذاً. لا بد أن أمتلك مسدساً كبيراً حقيقياً، وأرمي “فك الغنم” هذا الذي نلعب به عسكر وحراميّه.. نعم يجب أن يكون عندي مثل هذا المسدس، أمّا كيف وممّن فليس مهمّاً.. نعم ليس مهماً.. الأهم أن أحصل عليه لأوقف الذين يسقطون ويغلقون ويقفلون عند حدودهم.. نعم يجب أن أوقفهم أولاً حتى أصبح حرّاً.. ثم أختار ما أُريد؟!
…………………………………………………………………………………
هنا دار الإذاعة الإسرائيلية من أورشليم ـ القدس.. إليكم موجزاً لأهم الأنباء:
ـ “انفجرت صباح اليوم عبوّة ناسفة في شارع “يافا”، بينما كان طفل عربي يحملها، وأدّى انفجارها إلى إصابة أحد المارّة بجروح طفيفة، نقل على أثرها لمستشفى “هداسا” عين كارم!هذا وقد قتل الطفل على الفور. وأفادت قيادة شرطة أورشليم أنه يعتقد أن أحد “المخرّبين” كلّف الطفل بوضعها في مكان محدد..؟!
………………………………………………………………………………..
أحكم حارس مقر شرطة اللواء الجنوبي مسك بندقيّته.. نظر حوله برعب، فاستقرّ بصره جزعاً صوب الجهة المقابلة، حيث بستلن الزيتون..؟!
…………………………………………………………………………………
شاهر لا يزال شاهراً “فك الغنم”، غارقاً بأحلامه بين الأغصان الكثيفة..
………………………………………………………………………………..
ـ شو بتعمل
يجفل شاهر مرتعداً.. يتمسّك جيّداً بالأغصان.. يصحو من الحلم والصرخة.. ينظر للأسفل، فيصعق خوفاً فوق خوفه..
خمس بنادق مشرعة نحوه تحاصر الشجرة من كلّ الجهات.. يتملّكه الذعر.. يحاول أن يبكي فلا تسعفه الدموع..
يسقط “فك الغنم” من يده.. تتفرّسه العيون العشر.. ترتخي السبّابات عن الأزندة.. يعلو الضحك ويعلو يقطعه صوت الضابط متصنّعاً الحزم:
ـ “يلّا إنزل”
يتمالك شاهر نفسه وتوازنه.. يرمق باحتقار “فك الغنم” المُلقى بين الأرجل العشر.. يفتح يديه على اتّساعهما حول جذع الزيتونة.. يضمّ الجذع بكلّ قوّته إلى صدره.. يلتحم وإيّاه.. يشعر أنه يكبر ويكبر، وأن قدميه تغوصان للأسفل، حيث تتشبّث الجذور بالأرض.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يوم الأرض 30/3/1985 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فك الغنم: يستخدمه الأطفال في فلسطين كمسدس في ألعاب الحرب الطفولية.
يوم الأرض: يوم يحييه الفلسطينيون يوم 30/3 من كل عام وتعود أحداثه لنفس اليوم من العام 1976، حيث اندلعت يومها مواجهات أسفرت عن استشهاد 6 فلسطينيين وإصابة واعتقال المئات في المناطق المحتلة عام 1948، ويعتبر ذلك حدثاً محورياً يعبر عن تشبث الشعب الفلسطيني بأرضه وهويته الوطنية.