قراءة في كتاب

فلسطين في ضوء الحق والعدل، لهنري قطان

ماتريوشكا نيوز

الكتاب وضعه مؤلفه هنري قطان في الأصل باللغة الإنجليزية لسد الفراغ الكبير في المكتبة الأجنبية عن القضية الفلسطينية، لأنه لاحظ جهل الرأي العام الأجنبي بها، فصرف همه من أجل سد هذا الفراغ وتنوير الرأي العام العالمي بالحقائق التي طمستها الدعاية الصهيونية، فكان كتابه هذا سجلا جامعا لكل الحقائق المتعلقة بالقضية الفلسطينية سياسياً وتاريخيا وقانونيا، وجاء مشبعا بالحجج القاطعة على الحقوق العربية الأصيلة في فلسطين.

والأستاذ هنري قطان لمن لا يعرفه، فهو واحد من أعلام القانون في الوطن العربي. ينتمي إلى أسرة مسيحية عربية مقدسية عريقة. عاش أحداث فلسطين قبل النكبة وبعدها، ودافع عنها أمام الأمم المتحدة والمنظمات الدولية المعنية بقضية فلسطين.

ويمكن القول أن القضية الفلسطينية لم تظفر من قبل بكتاب يدافع عنها خيرا من هذا الكتاب، إيضاحاً لحقيقتها، وإثباتاً لحقانيتها، وتبديداً لأوهام الصهاينة، ودحضاً لافتراءاتهم وأكاذيبهم، وإبطالاً لدعايتهم وتزييفهم للحقائق.

إن المؤلف في كل كلمة وسطر من كتابه يصرخ بأعلى صوته أن فلسطين كانت فلسطينية عربية منذ فجر التاريخ، وأن إقامة دولة يهودية على أرضها كان تحدياً صارخاً لحقائق التاريخ والعدل وحقوق الفلسطينيين. ثم إنه يوضح للقارىء بالحجج الدامغة والبيان الرصين الصادق، الفرق بين السيادة القانونية الحقانية وبين السيادة الواقعية التي تمت بالحديد والنار، ويبرهن في إفاضة وبلاغة وموضوعية وتوفيق على أن كل ما استند إليه الصهاينة في قيام دولتهم ابتداءً من وعد بلفور إلى قرار التقسيم، ثم ما أعقبه من غزو واحتلال لا يمنح دولتهم حق السيادة على أية قطعة من فلسطين المحتلة.

وينتهي المؤلف في ختام كتابه إلى أن استتباب السلام والأمن في هذه البقعة من العالم منوط أولاً بمحو الخطيئة الكبرى المرتكبة في فلسطين، وتخلي الصهاينة عن أهدافهم الاستعمارية والتوسعية، وإبطال الصبغة القومية والعنصرية عن دولتهم. ويرى أن الطريق لتحقيق ذلك يبدأ بتعرية أباطيل الصهاينة أمام العالم، وفضح أكاذيبهم وألاعيبهم. وهذا الكتاب يعد مساهمة قيمة جدا في هذا الباب.

-1-

سفر نفيس، من أجل المراجع العلمية في قضية فلسطين، منذ أصبحت فلسطين قضية، حتى اليوم. إنه موسوعة تاريخية وقانونية، قل أن يكون لها نظير في مكتبتنا العربية، ومن بين الكتابات والكتب التي صدرت عن مأساة فلسطين خلال نصف قرن من الزمان. وقد استحالت قضية فلسطين- بفضل هنري كتن- إلى حق وعدل واضحين، يؤديهما القانون الدولي تأييدا مطلقا، ومن هنا وضحت الرؤية، وتتضح أمام جيلنا المعاصر، وصار في إمكان العالم كافة، بل في إمكان كل إنسان، مهما كان لونه وجنسه وموطنه، أن يعرف: كيف أصبحت فلسطين قضية معروضة للبحث في كل محافل العالم الدولية والقانونية.

وقد نشر الكتاب في لندن بالإنجليزية عام 1969 ثم ظهرت هذه الترجمة العربية في طبعتها الأنيقة البيروتية عام 1970، واعتمد الترجمة كل من المؤلف ونقيب المحامين السابق في دمشق طاهر القاسمي؛ وأصبح فهم القضية الفلسطينية على وجهها الصحيح العادل فلي إمكان كل ذي ضمير إنساني منصف يحب أن يسود السلام والعدل والحق هذه المنطقة الضخمة من العالم. وإذا كان فولتير قد قال: إن الكتاب نور يضيء أو نار تحرق، فإن كتاب “فلسطين في ضوء الحق والعدل” يضيف أمام كل باحث مثقف عادل منصف ضوءا جديدا في الصراع العربي الإسرائيلي، ولن يكون هذا الضوء في صالح إسرائيل في يوم من الأيام. إن كتاب “فلسطين في ضوء الحق والعدل” سجل جامع لأدوار القضية الفلسطينية، وتحليل دقيق لكل عناصر الموقف المتفجر الحالي في الشرق الأوسط. يقول أكرم زعيتر في تقديمه للكتاب: إن قضية فلسطين لم تظفر في المحاماة عنها بخير من هذا الكتاب، إيضاحا لحقيقتها، وإثباتا لحقانيتها، وقد توفر للكتاب الأسلوب الذي يجعله مؤثرا في ضمير الأجنبي، بل وجدان العربي؛ وهو يبرهن للعالم على أن فلسطين كانت عربية منذ فجر التاريخ، وأن اليهود بيئة طارئة عليها، ناسفا بذلك الزعم الذي استحله الصهيونيون تسويغا لباطلهم؛ وفيه تفنيد بليغ للزعم بأن الانتداب قد جاء لإنقاذ الفلسطينيين، الذين كانوا يتمتعون بحقوقهم السياسية كاملة في العهد العثماني، والذين كانوا على قدر من الحضارة والمستوى يؤهلهم للاستقلال؛ ولكن جهود الانتداب انصبت على إقامة دولة يهودية في فلسطين، تحديا لحقائق التاريخ والعدل وحقوق الفلسطينيين، وبحسبك أنه لم تكن هناك منذ خمسين سنة مشكلة تدعى مشكلة فلسطين. إن الكتاب بحق- كما قال زعيتر- مكتبة في كتاب، ويقول عنه بحق المترجم الأستاذ وديع فلسطين في المقدمة التي كتبها لترجمته العربية أنه حمل إلى القراء في أوربا وأمريكا صوتا عربيا بليغا في أمانته، سليما في منطقه، قويا في حجته.

– 2-

والمؤلف من أسرة عربية مقدسة عريقة، ويعد من كبار علماء القانون في العالم العربي.. ولقد عمل في فلسطين قبل النكبة، وعاش أحداثها بعد النكبة، فكان ممثلا لعرب فلسطين أمام الامم المتحدة، بتكليف من الهيئة العربية العليا في الدورة الخاصة لعامي 1947 و1948؛ وندب من قبل جامعة الدول العربية عضوا في وفدها، الذي بحث قضية فلسطين مع وسيط الأمم المتحدة، الكونت برنادوت.. وله مؤلفات قانونية مشهورة. ولقد كان المؤلف في كتابه مؤرخا، وعالما حقوقيا، وسياسيا يعرض القضية الكبرى للوطن العربي والإسلامي من مختلف جوانبها التاريخية والسياسية والقانونية بوضوح شديد، وحجج بليغة، ووعي فقهي عميق، وفي أسلوب مؤثر مهذب. وما اجل ما يقول في منطق قانوني بليغ : إن إسرائيل مخلوق غير شرعي وغير طبيعي، وان إقحامه وسط خضم عربي كبير، وفي قلب العالم العربي، محض مغامرة جنونية تنذر بمزيد من الحروب والكوارث.  وكما ينبذ الجهاز الإنساني جسما غريبا عنه فإن العالم العربي نبذ هذه الدولة العنصرية. وإذا رددت إسرائيل دعواها المعروفة، وهي إن عقارب الساعة لا يمكن إرجاعها إلى الوراء مرة أخرى؛ فإن المؤلف يرد على ذلك ردا بليغا فيقول: بلى، لقد رجعت إلى الوراء في الجزائر مثلا؛ ولا بد لإقامة العدل في فلسطين وإعادة السلام إلى الشرق الأوسط من إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء.

المؤلف بحق، وكما يقول زعيتر : فقيه دولي موهوب، متمكن، يعرفك الفرق بين سيادة قانونية حقانية وسيادة واقعية، فالسيادة كما وردت في الدستور الفرنسي الصادر في 3 من أيلول 1791م “واحدة، لا تتجزأ، ولا يمكن التفريط فيها، ولا يجرى عليها التقادم”، وعليه فإن ملكية فلسطين تعود إلى سكانها الأصليين الذين استقرت لهم السيادة بمجرد انفصال هذه البلاد عن تركية، وسيادتهم على أرضهم المتوارثة هي واحدة لا تتجزأ، ولا يمكن التفريط فيها، ولا يجري عليها تقادم؛ وهي تشمل فلسطين بكاملها، على الرغم من أي تقسيم أو احتلال أو اغتصاب أو تقادم. إن وضوح الرأي أمام المؤلف جعله يقف متمكنا من الأحداث والتاريخ والأزمات والمشكلات، قويا في حجته، رائعا في بلاغته، عميقا في فقهه ومنطقه، مما يعد مكسبا للقضية ذاتها، وربما للعرب كافة.

– 3-

والمترجم وديع فلسطين أديب عربي قاهري متمكن، وإجادته التامة النادرة لأدب لترجمة يذكرنا بطبقات المترجمين الكبار في عصرنا الراهن، وفي عصر نقل الثقافات العالمية إلى لغة القرآن الكريم في ذروة الحضارة العباسية. وله كتب عدة مترجمة من العربية إلى الإنكليزية وبالعكس، تشهد بذوقه اللغوي الرفيع، بحسه البياني الدقيق.

وهو مع ذلك أديب وكاتب وصحفي وناقد متميز بالدقة والعمق والأصالة؛ وكتابه “قضايا الفكر في الأدب المعاصر” مشهور. لهذا كله كان قيامه على ترجمة هذا السفر القيم من الإنجليزية إلى العربية عملا جليلا أضاف إلى بلاغة المؤلف في الأصل الإنكليزي بلاغة المترجم في الأصل العربي؛ ورأينا في هذه الترجمة جهدا مبذولا صادقا وقويا لتكون الترجمة ببلاغتها ودقتها وقوة تأثيرها مكملة لكل ما احتواه الكتاب من مضمون ومحتوى تاريخي وقانوني وفقهي، وبذلك أضفى المترجم النابغة على النص الأصلي للكتاب الكثير من فصاحته الكلاسيكية الأصلية الأمينة الدقيقة وهو ربح وأي ربح للقارئ، وللغة العربية الجليلة، لغة القرآن الكريم.

ـ 4 ـ

ومما يدعو إلى الحمد والإعجاب جميعا هذه المنهجية العملية التي أضفاها المؤلف على كتابه، دقة في التبويب، في المصادر، في حقائق التاريخ، في السرد القانوني، في فهم النصوص واستخلاص الحقائق منها.وأمامنا الكتاب مقسم إلى أبواب رئيسية، وكل باب مكون من عدة فصول.ولنمش مع الحركة العلمية والذاتية للكتاب:
الباب الأول: عن النزاع بين العرب واليهود يتكون من فصول ثلاثة.
الأول:في النزاع قبل قرار التقسيم الصادر في 29 من نوفمبر 1947.
والثاني: في قيام إسرائيل وحرب 1948.
والثالث: عن إجلاء اللاجئين الفلسطينيين.

والمؤلف في هذا الباب يؤكد أن الفلسطينيين بعد الحرب العالمية الأولى، كانوا أهلا للاستقلال. ويذكر التصريح البريطاني الفرنسي (7/11/1918) الذي ينص على أن موقف الدولتين الكبيرتين آنذاك هو التحرير الكامل النهائي للشعوب التي طال عليها استبداد الترك لها، وإقامة حكومات وطنية؛ ويشير إلى التناقض بينه وبين تصريح بلفور (نوفمبر 1917)، وأن تصريح بلفور هذا مناقض للتصريح الثنائي الذي أشرنا إليه، وما أجمل ما وصف به هذا التصريح البلفوري بأنه يتلخص في أن أمة قطعت وعدا رسميا على نفسها لأمة أخرى بأن تمنحها بلاد أمة ثالثة، ويقول : إن هذا التصريح ينص على إنشاء وطن لا دولة؛ ويؤكد أن هدف الصهيونية هو إقامة دولة في فلسطين منذ مؤتمر بال المنعقد عام 1897م، وبذلك يبلور هنري كتن القضية الفلسطينية بلورة حقيقية. ويذكر المؤلف كذلك في هذا الباب نسبة اليهود إلى السكان العرب في فلسطين، ونسبه ما يملكون إلى أملاك العرب.

في عام 1170م كان عددهم 1440. وفي عام 1800م صار عددهم ثمانية آلاف.  وفي عام 1845 بلغوا أحد عشر ألفا. وفي عام 1880 بلغوا عشرين ألفا. وفي عام 1918 صاروا 56 ألفا بنسبة هي أقل من 10 % من السكان.
ويرد المؤلف في هذا الباب كذلك على خطأ شائع، اختلق عمدا، وهو أن عرب فلسطين كانوا غزاة لها في أثناء الفتح الإسلامي العربي؛ لأن هذا الزعم الباطل غير صحيح تاريخيا، فإن العرب الفلسطينيين هم السكان الأصليون لهذه البلاد..
ويرد كذلك المؤلف على كثير من الأباطيل التي روجت لها الدعاية الصهيونية، ويعرض لمذبحة دير ياسين المشهورة، وهدف إسرائيل منها (ص 46 و47 الكتاب). والباب الثاني من هذا الكتاب القيّم عنوانه: عشرون عاما من التوتر (1948 – 1967)، وهو كذلك مقسم إلى عدة فصول:
الأول: في إخفاق الوساطة والتوفيق.
والثاني: في حرب 1956 ونتائجها.
والثالث: عن رفض إسرائيل إعادة اللاجئين إلى ديارهم.
والرابع: في مساعدة اللاجئين وإنشاء “هيئة إغاثة اللاجئين” التابعة لهيئة الأمم المتحدة عام 1949.
والخامس : في مصير ممتلكات اللاجئين، التي قدرت تقديرات مختلفة حسب الأهواء والظروف، والتي قال عنها ستيفن بتروز رئيس جامعة بيروت الأمريكية أنها لا بد أن تبلغ رقما مذهلا بتفاوت بين مليارين وثلاثة مليارات من الجنهيات الإنجليزية (8 و12 مليار دولار).
وفي هذا البيان كثير من الحقائق المذهلة، والمآسي المفجعة، التي احتوت عليها القضية الفلسطينية، والتي لم يحدث مثلها في التاريخ:                                           .
أما الباب الثالث من الكتاب فيتعلق بحرب 1967، وهو في ثلاثة فصول
الأول: في أسباب الحرب.
والثاني: عن مأساة أخرى للاجئين.
والثالث: في آثار الحرب.
والباب الرابع : يتعلق بالحل الصحيح للقضية الفلسطينية؛ وهو في أربعة فصول:
الأول : في جوهر النزاع، وهو الظلم الأساسي للعرب الفلسطينيين الذي وقع في عام 1948، والذي تفاقم بسبب حرب1967.

والثاني: في مفاهيم خاطئة للحل، من مثل:
ـ قبول العرب للوضع الراهن.
ـ توطين اللاجئين خارج بلادهم.
ـ تعويض اللاجئين.
والثالث : عن الالتزامات التي فرضتها الأمم المتحدة ومبادئ القانون الدولي وتعهدات إسرائيل للأمم المتحدة، سواء كانت هذه الالتزامات متعلقة بالجلاء عن الأرض، أو بإعادة اللاجئين إلى ديارهم، أو برد ممتلكات اللاجئين، أو بتعويضهم.
والرابع: عن امكانيات التسوية وشروطها، من مثل
عقد صلح بين العرب وإسرائيل.
أو إجراء تسوية سياسية وشروط الحل العادل أو التسوية المنصفة، مما يمكن تلخيصها فيما يلي:
تصحيح الأخطاء التي ارتكبت في فلسطين.                 1ـ
2 ـ اتخاذ قرار دولي يحدد الإجراءات الكفيلة برفع المظالم.
3 ـ التنفيذ على أيدي الأمم المتحدة.
وليس من غرضنا هنا أن نستقصي أو أن نتتبع كل فكرة عرض لها المؤلف، وكل حدث تاريخي من إحداث القضية؛ فحسبنا أن نشير، وأن نلفت نظر القارئ إلى أهمية هذا  الكتاب في دراسة القضية الفلسطينية، وفهم أبعاد النزاع العربي الإسرائيلي، ونتائجه القريبة والبعيدة على حد سواء. وقد ذيل المؤلف الكتاب بملاحق ووثائق ذات أهمية تاريخية وقانونية وسياسية في دراسة هذه القضية وأطوارها.

-5-

إن كتاب “فلسطين في ضوء الحق والعدل” من أهم ما ظهر عن قضية الشرق العربي. وقضية فلسطين، حتى اليوم. وهو مادة ثقافية ضرورية لكل عربي يعيش حياته وعصره ومشكلات أمته ويريد أن يفهم حقائق الصراع العربي الإسرائيلي
ولا بد من أن تقوم وزارات المعارف والتعليم العالي والثقافة والإعلام في جميع دول الشرق العربي بطبع الكتاب طبعات عدة، وبطبعه كذلك طبعة صغيرة توزع مجانا على جميع طلبة الجامعات وأساتذتها وعلى جميع المتفوقين في مراحل التعليم الثانوي، وعلى مختلف الهيئات الثقافية في مختلف أنحاء الوطن العربي والإسلامي، وتوزع كذلك على جميع موظفي السلك الدبلوماسي والإعلامي في بلادنا، وعلى المثقفين في الغرب من أنصار العرب وقضيتهم الكبرى.
إن حقائق القضية، وجوهر النزاع فيها وأبعاد الصراع حولها، لا يصح أن تظل بمعزل عن فهم وإدراك كل شاب مثقف يعيش في رقعتنا العربية. لا بد من توعية قومية ثقافية حول قضية العالم الإسلامي قاطبة، قضية فلسطين المسلوبة، وهي القضية، التي نناشد الضمير الإنساني في كل مكان أن يجد لها الحل العادل الأساسي، في أقرب وقت؛ وقبل أن تحمل الإنسانية كلها وزر هذه الجريمة الكبرى التي ارتكبت على أرض فلسطين العربية.
تهنئة للمؤلف هنري كتن. وتحية للمترجم وديع فلسطين. وتقديرا للكتاب، كتاب “فلسطين في ضوء الحق والعدل”.

 

مقتطفات من الكتاب

نقل “هنري قطان” في كتابه “فلسطين في ضوء الحق والعدل” وصف جاك دي رينيه – كبير مندوبي هيئة الصليب الأحمر الدولية – حين عرض حياته للخطر، واستطاع أن يصل إلى القرية ( دير ياسين) ويرى بعيني رأسه عواقب المأساة .. ومما قاله: ” لقد ذبح ثلاثمائة شخص بدون أي مبرر عسكري، أو استفزاز من أي نوع كان وكانوا رجالاً متقدمين في السن ونساء وأطفالاً ورضعاً اغتيلوا بوحشية بالقنابل اليدوية والمدى وبأيدي قوات أرجون اليهودية، تحت الإشراف والتوجيه الكاملين لرؤسائها ”

ووصف رينيه العصابات اليهودية التي لقيها في مكان الحادث فقال :”إنها تألفت من رجال ونساء مسلحين بالمسدسات والمدافع نصف الرشاشة والقنابل اليدوية ومدى كبيرة كان معظمها لا يزال ملطخاً بالدماء ويقول : بل إن شابة أرته مديتها وهي لا تزال تقطر دماء وكأنها علامة على النصر ، ورأى الجثث المشوهة للضحايا ، ومنهم فتاة عمرها عشر سنوات وعجوزان مازلن يتنفسن بالرغم من أنهن جرحن وتركن لكي  يدركهن الموت ، وقد عملت الوكالة اليهودية والهاجانا كل ما تستطيعان للحيلولة دون قيام مندوب (الصليب الأحمر ) الدولي بالتحقيق في هذه المذبحة الفظيعة “.

وتقول “روز ماري” الباحثة والصحافية البريطانية في كتابها الفلاحون الفلسطينيون من الاقتلاع إلى الثورة ، و الذي صدر بسبع لغات : “أن مجزرة دير ياسين التي وقعت في 8 أبريل والتي قتل فيها مالا يقل عن 300 قروي قد حازت على قسط كبير من الاهتمام ، وعمدت القيادة الصهيونية في البداية إلى التنصل من المجزرة وبعث بن غوريون رسالة اعتذار إلى الملك عبد الله وضع فيها اللوم على كاهل المجموعات الإرهابية “غير الرسمية” ، مع أنه في الحقيقة شاركت وحدة من البالماخ في الهجوم على دير ياسين إلى جانب منظمتي الأرغون وشتيرن .

ويصف المحقق البريطاني ريتشارد كاتلنغ مدى الصعوبة التي واجهها في إقناع البنات والنساء المرعوبات والمذلولات بأن يصفن له ما حل بهم وبغيرهن ممن لم تكتب له النجاة: ” قابلت العديد من النساء بهدف جمع المعلومات المتعلقة بأية فظائع يمكن أن تكون ارتكبت في دير ياسين  ولكن غالبية هؤلاء النساء خجولات جدا ، ويترددن في رواية ما حدث معهن وخصوصا الأمور المتعلقة بالإغتصابات وهن بحاجة إلى قدر كبير من المواساة، كما أن تسجيل الإفادات تعترضه الحالة الهستيرية التي تعيشها النساء حيث إنهن ينهرن …. أثناء تسجيل الإفادة”.

ويلخص “بني موريس” أحد ابرز المؤرخين اليهود ، وهو باحث ومراسل ميداني وصحافي مسيرة قادة اليهود في نشر الأكاذيب بقوله: “نحن الإسرائيليين كنا طيبين ، لكننا قمنا بأفعال مشينة وبشعة كبيرة، كنا أبرياء لكننا نشرنا الكثير من الأكاذيب وإنصاف الحقائق، التي أقنعنا أنفسنا وأقنعنا العالم بها، نحن الذين ولدنا لاحقا بعد إنشاء “الدولة” عرفنا كل الحقائق الآن بعد أن عرض علينا زعماءنا الجوانب الإيجابية فقط من تاريخ  “إسرائيل”، لكن للأسف كان ثمة فصول سوداء لم نسمع شيئا عنها، لقد كذبوا علينا عندما اخبرونا أن عرب اللد والرملة طلبوا مغادرة بيوتهم بمحض إرادتهم، وكذبوا علينا عندما أبلغونا أن الدول العربية أرادت تدميرنا ، وإننا كنا الوحيدين الذين نريد السلام طوال الوقت، وكذبوا عندما قالوا: “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض” ، وكذبة الأكاذيب التي سموها الاستقلال – ويضيف بني موريس” لقد حان وقت معرفة الحقيقة ، كل الحقيقة ، وهذه مهمة ملقاة على عاتقنا نحن المؤرخين الجدد !!” .

وتصف روز ماري – الباحثة البريطانية – حجم تلك الأكاذيب بالقول: “لقد آذى التشهير بالفلسطينيين أكثر مما آذاهم الفقر، وأكثرها إيلاما الاتهام بأنهم باعوا أرضهم، أو أنهم هربوا بجبن، وقد أدى الافتقار إلى تأريخ عربي صحيح لعملية الاقتلاع بالجمهور العربي إلى البقاء على جهله بما حدث فعلا !!”

فالتاريخ وللأسف يكتبه القوي المنتصر!! ، وأما الضعيف المغلوب على أمره ، لا يكتفى بأن يعيش بهزيمته وآلامه، بل عليه أن يرضى ويصدق بهذا التاريخ، ويقبل بسرد الوقائع التي وقعت أمام عينه بصور مغايرة للحقائق، انطلاقا من المقولة “التاريخ صنع المنتصرين”!!.

والحقيقة المرة أن مأساة فلسطين وما حل بأهلها “تاريخ لم يكتب بعد”، فما حدث في فلسطين من اقتلاع شعب من أرضه، وإحلال شتات اليهود في مساكنهم  ممتلكاتهم وأرضهم، وهم ما يزالون يحملون مفاتيح بيوتهم وينتظرون العودة لها…، ما زال يدور حوله هذا التاريخ الكثير من الأكاذيب ، لأنه إن كتب فبأيدي يهودية منطلقها: “إذا أردت أن تقتل عدواً لا تطلق عليه رصاصة بل أكذوبة”. 

ولم أجد ما أختم به مقالتي أكثر صراحة ووضوحا من كلمة موشى دايان لليهود الذين كانوا يعارضون إقامة المغتصبات اليهودية ، بما لم يعرفه بعضهم من الجيل الصغر عمرا قائلا :

“لقد جئنا إلى هذا البلد الذي كان العرب توطنوا فيه ، ونحن نبني دولة يهودية …. لقد أقيمت القرى اليهودية مكان القرى العربية . أنتم لا تعرفون حتى أسماء هذه القرى العربية وأنا لا ألومكم ، لأن كتب الجغرافيا لم تعد موجودة . وليست كتب الجغرافيا هي وحدها التي لم تعد موجودة ، بل القرى العربية نفسها زالت أيضا، وما من موضع بني في هذا البلد إلا وكان أصلا سكان عرب”.

شهادات وأقوال لعلها تنبه إخواننا وبني جلدتنا بأن تاريخ فلسطين وما حل بها ” تاريخ لم يكتب بعد”.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى