“بريطانيا أرادت الحصول على دعم الجالية اليهودية في الولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الأولى لما تتمتع به من نفوذ واسع هناك لدفع الولايات المتحدة للاشتراك في الحرب إلى جانب بريطانيا. وهناك تفسير آخر وهو الاعتقاد بأن العهد القديم من الإنجيل يضمن حق إسرائيل في فلسطين. ولا تتضمن الرسالة كلمة (دولة) بل تتحدث عن (وطن وتؤكد على عدم القيام بأي شي يمكن أن يمس الحقوق المدنية والدينية للجماعات الاخرى التي تعيش في فلسطين)“.
في ذكرى مرور 107 سنوات على وعد بلفور المشؤوم والذي عُرف عنه عندما كان رئيساً لوزراء حكومة حزب الاحرار مطلع القرن العشرين الماضي بمعاداته للسامية وسعيه لطرد اليهود من بريطانيا العظمى حينها، ثم اقتضت المصالح الاستعمارية البريطانية والغربية، أن يطلق وعده يوم 2/1917 المعروف باسمه، والذي صاغته حينها قادة الحركة الصهيونية العلمانية والملحدة وقتذاك، وقبل ان تضع الحرب العالمية الأولى أوزارها ويتم هزيمة الامبراطورية العثمانية وتقسيم أراضيها الشاسعة.. نشرت “بي بي سي” تقريراً بعنوان “ما هو وعد بلفور اليوم 2/11 الجاري، جاء فيه: “قبل أن تضع الحرب العالمية الأولى أوزارها ويتقاسم المنتصرون فيها تركة الإمبراطورية العثمانية، سارع وزير الخارجية البريطاني أرثر بلفور في 2 نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 1917 إلى كتابة رسالة إلى المصرفي البريطاني وأحد زعماء اليهود في بريطانيا البارون روتشيلد، أدت إلى قيام دولة إسرائيل وما تبع ذلك من حروب وأزمات في الشرق الأوسط”.
فما قصة هذه الرسالة ولماذا كُتبت؟
“كانت الرسالة التي تعرف حالياً بـ (وعد بلفور) أوضح تعبير عن تعاطف بريطانيا مع مساعي الحركة الصهيونية لإقامة وطن لليهود في فلسطين حيث طلب فيها بلفور من روتشليد إبلاغ زعماء الحركة الصهيونية في المملكة المتحدة وإيرلندا بموقف الحكومة البريطانية من مساعي الحركة. ورغم أن الرسالة لا تتحدث صراحة عن تأييد الحكومة البريطانية لإقامة (دولة لليهود في فلسطين)، لكنها أدت دوراً أساسياً في اقامة دولة إسرائيل بعد 31 عاماً من تاريخ الرسالة، أي عام 1948. كما ساهمت الرسالة في تشجيع يهود القارة الأوروبية على الهجرة إلى فلسطين خلال الفترة ما بين الحرب العالمية الأولى والثانية، في وقت كانت القارة تشهد صعوداً للتيارات القومية المعادية للسامية. أما بالنسبة للأسباب التي دفعت بريطانيا إلى إصدار هذا الوعد، فهناك أكثر من تفسير لذلك، أهمها أن بريطانيا أرادت الحصول على دعم الجالية اليهودية في الولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الأولى لما تتمتع به من نفوذ واسع هناك لدفع الولايات المتحدة للاشتراك في الحرب إلى جانب بريطانيا. وهناك تفسير آخر وهو الاعتقاد بأن العهد القديم من الإنجيل يضمن حق إسرائيل في فلسطين. ولا تتضمن الرسالة كلمة (دولة) بل تتحدث عن (وطن وتؤكد على عدم القيام بأي شي يمكن أن يمس الحقوق المدنية والدينية للجماعات الاخرى التي تعيش في فلسطين). وجاءت رسالة بلفور تتويجاً لسنوات عديدة من الاتصالات والمفاوضات بين الساسة البريطانيين وزعماء الحركة الصهيونية في بريطانيا. فقد كان موضوع مصير الأراضي الفلسطينية قيد البحث في دوائر الحكم في بريطانيا بعد دخولها الحرب العالمية الاولى مباشرة. وجرى أول لقاء بين حاييم وايزمان، زعيم الحركة الصهيونية لاحقاً، وبلفور عام 1904 وتناول اللقاء موضوع إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين”.
“وعد بلفور.. مئة عام من الجدل”…
وعرضت إذاعة “بي بي سي” وثائقي أعده “محمد عبد الرؤوف” بداه بعرض مشاهد يوم 1/11/2017 داخل إحدى الكنائس في جنوب شرقي اسكتلندا يوجد لوح تذكاري أقامه أقارب السياسي البريطاني الراحل آرثر بلفور تخليدا لذكراه. نقشت على النصب عبارة تقول: (في ذكرى آرثر بلفور الذي تمكن عبر قدراته العقلية والروحية كرجل دولة وفيلسوف من إثراء مملكة العقل ودعم الحقيقة والنزاهة والسلام في العالم). الكلمات المنقوشة على اللوح التذكاري تثير الاستهجان عند البعض والاستحسان عند آخرين، فاسم آرثر بلفور يرتبط في تاريخ الشرق المعاصر بما صار يعرف في الثقافة العربية بوعد بلفور. لكن هل كان بلفور والوعد الذي ارتبط باسمه من أسباب رخاء منطقة الشرق الأوسط أم أن الأمر كان وبالا عليها؟ وما هي الظروف المحيطة بإصدار هذا الوعد؟”.
“المولود ذكر”
“في العاصمة البريطانية لندن في 31 أكتوبر/ تشرين الأول عام 1917 كانت الحكومة برئاسة لويد جورج تناقش إصدار الوعد الذي يدعم إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين التي كانت خاضعة وقتها لحكم الدولة العثمانية، بينما يقف القيادي الصهيوني حاييم وايزمان خارج غرفة الاجتماعات مترقبا ما سيحدث. السياسي البريطاني مارك سايكس يخرج من الغرفة مهنئا القيادي الصهيوني قائلا له (دكتور وايزمان.. المولود ذكر). هي ولادة سياسية إذن للوعد المكون من 67 كلمة والذي سيتم الإعلان الرسمي عنه في شكل خطاب موجه من وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور إلى لورد روتشيلد رئيس الاتحاد الصهيوني في بريطانيا يوم الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني 1917”.
فما الذي دعا بريطانيا إلى إصدار وعد بلفور؟
“المفكر الفلسطيني رشيد الخالدي المحاضر بجامعة كولومبيا وأستاذ كرسي إدوارد سعيد يرى أن الوعد، الذي يصفه بالجائر، امتداد لسياسة بريطانيا الاستعمارية، وهو ما يشرحه بالقول: (الوعد لم يرتبط بأي بعد ديني أو اخلاقي بل هو محاولة من بريطانيا إلى مد نفوذها إلى فلسطين بسبب موقعها المتميز، فاهتمام بريطانيا بفلسطين يسبق أي علاقة بينها وبين الحركة الصهيونية). لكن ومثل أي شيء يتعلق بوعد بلفور فإن هناك خلافا كبيرا بين المؤرخين حول الأسباب التي تكمن وراء إصدار الوعد، كما يشرح البروفيسور أفي شلايم الأستاذ بجامعة أوكسفورد بقوله إن: (وعد بلفور يمثل قضية مثيرة للجدل بين المؤرخين فهناك وجهة نظر ترى فيه مشروعا بريطانيا مسيحيا نبيل الأهداف لمساعدة اليهود للعودة إلى وطنهم التوراتي حظي بدعم ساسة متعاطفين مع الحركة الصهيونية، بينما يربط فريق آخر من المؤرخين بين الوعد والسياسة الإمبريالية لبريطانيا والتي كان من بين أهدافها الحصول على دعم يهود الغرب). ويبدو أن الخلاف حول وعد بلفور ليس قاصرا على المؤرخين بل أن الخلاف ولد قبل صدور الوعد نفسه، كما يقول البروفيسور أفي شلايم الذي يرى أن (الوعد كان مثار خلاف داخل حكومة لويد جورج فعندما كان رئيس الوزراء وعدد من المسؤولين يؤيدون اصدار الوعد كان هناك فريق يعارض الأمر. ومن بين أعضاء فريق المعارضين الوزير اليهودي الوحيد في الحكومة ادوين مونتغيو الذي كان يرى أن إنشاء وطن قومي لليهود سيقوض من الجهود المبذولة لتحقيق المساواة بين اليهود وغيرهم).
تباين الآراء في القدس
“في القدس يبدو الخلاف حيال الوعد واضحا، فعند سؤال أبناء المدينة من الفلسطينيين بالقرب من ساحة المسجد الأقصى ستكون الإجابة دائما واحدة فهو فعل خيانة وعمل استعماري قامت به بريطانيا. أما عند مدخل الحائط الغربي فإن اليهود يرون فيه فعلا نبيلا أعاد إليهم ما يرونه وطنهم التوراتي. أما عند كنيسة القيامة فهناك حالة من عدم المعرفة بالوعد. تتكرر نفس الإجابات الناقمة على الوعد في الضفة الغربية خاصة بين أبناء المخيمات الذين يرون في الوعد أصل كل الشرور. وبالطبع يرى المستوطنون اليهود في الوعد الفعل الأكثر نبلا لتأسيس وطن لشعب تعرض للكثير من الاضطهاد طيلة تاريخه”.
اعتذار أم احتفال؟
“وفي بريطانيا لا ينتهي الجدل حول وعد بلفور فبينما يدعو فريق الحكومة البريطانية إلى الاعتذار عن إصدار الوعد يرى فريق آخر أن ذكرى الوعد المئوية فرصة للاحتفال. ماجد الزير رئيس مركز العودة الفلسطيني يرى أن الاعتذار هو أقل ما يمكن أن تفعله بريطانيا لأنها تسببت في تشريد قطاع كبير من الشعب الفلسطيني. وبينما ترفض الحكومة البريطانية الاعتذار وتصر على الاحتفال يرى وزير الخارجية البريطاني السابق، جاك سترو، أنه يجب النظر إلى السياق التاريخي الذي صدر فيه الوعد، فبريطانيا كانت تخوض غمار حرب وجاء الوعد استجابة لضرورة استراتيجية. ويرفض الوزير السابق الاعتذار عن أحداث وقعت قبل مئة عام. ويبدو أن الوعد الذي صدر منذ مئة عام لا يزال يثير الجدل والخلاف، فهو عند البعض خيانة وعند آخرين فعل نبيل. لكن ما لا يُختلف عليه هو أن وعد بلفور يلقي بتبعاته على حياة الملايين مصداقا لمقولة الشاعر البريطاني ويليام شكسبير بأن (هناك شيئا من التاريخ في حياة كل البشر)”.