لا يحتاج القائد التاريخي الشهيد الرمز ياسر عرفات إلى أي محامي دفاع عنه، فمواقفه وصلابته الرجولية في أحلك الظروف والمنعطفات التاريخية لمسيرة الثورة الفلسطينية المعاصرة والمتواصلة “حتى النصر” تشهد له بذلك. وهو الذي لخّص المشهد المتواصل بإطلالته من على منبر الأمم المتحدة عام 1974، قائلا: “أتيتكم حاملاً البندقية بيد وغصن الزيتون باليد الأخرى، فلا تدعوا غصن الزيتون يسقط من يدي”، لكن العالم المنافق والظالم، وخصوصاً الغرب الاستعماري بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية المتغطرسة، والداعمة لربيبتها دولة “الكيان” النازي، لم يدركوا كُنْهَ كلماته، فأسقطوا بل وفتّتوا غصن الزيتون، وما يزالون، ويحاولون بشتى وسائل الإبادة والتدمير شطب البندقية الفلسطينية المقاومة، رغم اقتناعهم الراسخ والمجرّب بأن الشعب الفلسطيني الصابر عصي على الكسر والاستسلام، ولا يزالون عبثاً يحاولون ذلك، وهم الذين شاهدوا ومعهم العالم أجمع خيار “الختيار” المدوّي وهو يمتشق بندقيته بيد، ويقبض على مسدّسه باليد الأخرى: بل شهيداً.. شهيداً.. شهيداً. وكأن لسان حاله يقول: إذا كان لا بدّ من الموت، فمن العار أن تموت “جباناً”؟!
كثيرون ممَّن تخفى عليهم بواطن الأمور، أو يتغافلون عنها، وجّهوا سهام غضبهم على “الختيار”، وهو المشهود له بأنه “جمل المحامل” والحريص كل الحرص على “الوحدة الوطنية الفلسطينية”، وخيمة “ديمقراطية غابة البنادق”، والقائد على “عشرة ملايين قائد” من أبناء الشعب الفلسطيني حينها.. اكتفى بأن يُسِرّ لبعض المقرّبين منه، ومنهم المستشار وضابط الارتباط حينها بين وزارة الدفاع السوفيتية والمقاومة الفلسطينية السيد رامي الشاعر، حيث ينقل الشاعر عن “أبو عمار” بأن قراره بالموافقة على “اتفاق أوسلو” كان اضطرارياً، حيث لم يبقَ أمامه خيارٌ آخر، بعد أن سُدّت في وجهه كافة الأبواب والخيارات بعد خروجه المُشرّف من حصار بيروت، وأنه كان يدرك بقرارة نفسه أنه “فخ” نُصب له ولفلسطين، لكنّه آثر العودة إلى وطنه الحبيب فلسطين، ومواصلة مسيرة “الكفاح المسلّح” التي أطلق هو وأخوته ورفاقه الميامين شرارتها، ويفضّل خيار الموت شهيداً فوق ثرى ترابه الوطني، كخيار أخير وربما وحيد.
ويُذكر هنا أن الشهيد الرمز “أبو عمار” كان قد كلّف حينها السيد الشاعر بمهمة خاصة وحساسة، ويظهر في الصورة أدناه المستشار وهو يعرض النتائج بحضور مجموعة كبيرة من أبرز الشخصيات في قطاع غزة والضفة الغربية والذين ناقشهم السيد الشاعر بخصوص المهمة الموكلة له، وحينها وفي تقريره أبلغ الشاعر الرئيس ياسر عرفات: “إن اتفاق أوسلو هو فخ نُصب إلينا لتصفية القضية الفلسطينية وهو يهدف إلى تحويل قطاع غزة والضفة الغربية إلى معسكر اعتقال كبير، كسجن أنصار نديره نحن الفلسطينيين بأنفسنا وندفع تكاليفه بأنفسنا”.
اللافت أن معظم منتقديه على هذا الخيار الاضطراري، قد بدأوا يتسابقون، بل ويتهافتون تباعاً لنيل بعضاً من مغانم هذا الخيار بلا تحمّل لأية أثمان أو مسؤولية، فهناك “الختيار” مَن يحمل على عاتقه ذلك كالمعتاد، ويخفف عن كاهلهم كافة الأعباء، وهو المشهود له بذلك. بل أن بعضهم ذهب لدرجة قذف “المحصن” بالخيانة الوطنية، وهم ذاتهم الذين قال حكيمهم ذات يوم: نختلف مع “أبو عمار” ولا نختلف عليه؟!
لعل الكثير من معارضي “فخ أوسلو”، والذي سبقه نصبُ الكثير من الفخاخ لاصطياد “العملاق الفلسطيني” المقاتل، ومنها على سبيل المثال لا الحصر ما يسمى “اتفاق عمان” عام 1985 بين الأردن ومنظمة التحرير وبمساع أمريكية بهدف استبدال الدولة الفلسطينية المستقلة بالكونفدرالية الأردنية ـ الفلسطينية والذي جرى التراجع عنه بعد أن أدرك طرفاه حجم الضرر الواقع عليهما و”الفخ” المنصوب لهما، وبات واضحاً أن كافة “الفخاخ” بشتى تلاوينها كانت تستهدف شطب ثالوث الإجماع الوطني الفلسطيني ممثلاً في: العودة، تقرير المصير، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، وكلها حقوق مشروعة ومثبتة بقرارات دولية واضحة لا لبس فيها؟!
ومن معارضي “أوسلو”، وتحديداً من قادة حركة التحرير الوطني الفلسطيني “فتح” المؤسسين، وفي مقدّمتهم الأب الشرعي للدبلوماسية الفلسطينية القائد الراحل فاروق القدّومي “أبو اللطف” الذي تنبأ منذ البداية بأن اتفاق أوسلو سيُلحق ضرراً كبيراً بالنضال الفلسطيني والقضية الفلسطينية.. يدركون تلك الحقائق المذكورة. لكن أحداً منهم لم يكن يتوقّع أن يأتي يوماً ما، وفي غفلة من الزمن، تتحوّل فيه المفاوضات إلى “نهج حياة”، وأن يتحول فيه حق مقاومة المحتل المكفول شرعة وقانوناً بشتى الوسائل بما فيها “الكفاح المسلح” مجرد “إرهاباً”، وأن يتوسل فيه الفلسطيني صاحب الأرض والحق التاريخي الثابت والمشروع من المُغتصِب والمحتل التكرُم عليه بشذر ولو يسير من حقوقه المسلوبة، وهو الذي ينكر أصلاً مجرد وجود الشعب الفلسطيني الأصيل، بل ويدّعي حقه “المقدّس” في فلسطين التاريخية وحتى ما بعد فلسطين التاريخية، مستنداً في ذلك لخرافات توراتية اكتتبها وابتدعها بنفسه ما كتبها الله له وعليه، و”تفرعن” لدرجة لم يعد يجد أمامه في هذا العالم المترامي الأطراف مَن يردعه أو يردّه عن طغيانه وبغيه وغيّه المنفلت من أي عقال؟!
كيف لا ومعظم هؤلاء القادة وكثير ممّن تتلمذ على أيديهم، قد استمعوا ووعوا جيداً لما قاله عام 1981 رئيس جهاز أمن دولة الاتحاد السوفييتي يوري أندروبوف خلال لقاء جمعه بالقيادة الفلسطينية حين زار وفد برئاسة أبو اللطف موسكو لحضور المؤتمر السادس والعشرين للحزب الشيوعي السوفيتي 1981 حيث أكّد السيد أندروبوف لمستمعيه: “أن التحديات التي تواجهها حركة التحرر الفلسطينية كبيرة جداً، لأن عدوّكم ليست دولة إسرائيل فقط، بل عدوّكم هو الصهيونية العالمية والتي مركزها واشنطن. ولكننا على ثقة تامّة أن نضالكم عادل، وسنقوم بمساعدتكم بجميع الإمكانيات والوسائل حتى تتمكنوا وتقيموا دولتكم الفلسطينية المستقلة”. وهو ما حصل فعلاً، وأكده المستشار الشاعر قائلاً: كنت أشرف على تدريب جميع الضباط والفدائيين الفلسطينيين من جميع التنظيمات الفلسطينية في العديد من مدن ومعسكرات التدريب في الاتحاد السوفييتي، هذا بالإضافة إلى أن الاتحاد السوفييتي كان يزودنا بالسلاح. ويبدو أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يواصل النهج ذاته، بل هو خير خلف لخير سلف. كما أنهم قد درسوا بوعي كافة تجارب الثورات العالمية، والتي كانت تتفاوض مع المحتلين والمستعمرين “تحت النار”، وتستمر في “الكفاح المسلّح” حتى خروج آخر جندي صاغراً ذليلاً، ولهم في تجربة الجزائر المشرقة، وتجربة معارك “سايغون” الفيتنامية، وكذلك تجربة الأمس القريب في العاصمة الأفغانية “كابول”، وتجربة “الختيار” نفسه الذي أُتُّخذ قرار قتله وتصفيته في غرفة سوداء مغلقة جمعت جورج بوش الابن سفّاح العراق وجزّار صبرا وشاتيلا شارون، عندما تيقّنوا من تمسّكه الذي لم يحد عنه يوماً بخيار “الكفاح المسلح”.. خير دليل وعبرة لمَن أراد أن يعتبر؟!
وختاماً فإن كل ما تقدّم يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك، على أن ما يجري اليوم في قطاع غزة وفي الضفة الغربية، وبالتوازي مع ما يجري على الحدود الروسية الأوكرانية هو مخطط صهيوني أمريكي أبعد بكثير من أن يكون رداً على أحداث 7 أكتوبر، أو رداً على العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا كذلك، بل هو بالحقيقة مخطط مُبيّت منذ عشرات السنين، بغية إضعاف روسيا إن لم يكن تقسيمها ونهب خيراتها الوفيرة، واستمرار الهيمنة الأمريكية بالدرجة الأولى على القضية الفلسطينية والشرق الأوسط والعالم العربي. وفيما يخص أوكرانيا فهو لإعاقة جهود انتقال العالم إلى عالم التعددية القطبية، فهذا هو أسلوب الصهيونية العالمية لتصفية القضية الفلسطينية وهو نفس الأسلوب الذي اتُبع أيضاً بالتحايل على روسيا وذلك من خلال الموافقة على اتفاق مينيسك عام 2015 لحل الأزمة حينها بين روسيا وأوكرانيا حيث قد اعترفت ألمانيا لاحقا أن الهدف الأساسي لاتفاق مينيسك هو لكسب الوقت والتحايل على روسيا حتى يتمكن الناتو بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية بتجهيز كل ما يتطلب لتنفيذ مخطط استخدام أوكرانيا لتهديد الأمن القومي الروسي، بل أكثر من ذلك فقد وصل الغباء الغربي إلى درجة أنهم اعتقدوا سيستطيعون هزيمة روسيا، وكل ذلك يأتي بنفس السياق الذي اتبعته الإدارة الأمريكية والصهيونية العالمية لتصفية القضية الفلسطينية من خلال الاتفاقيات التي سبق وأن ذكرناها (اتفاق عمان وأوسلو)، وأي جهود أو مبادرات أخرى تهدف إلى الحياد عن قرارات الأمم المتحدة الصادرة بخصوص التوصل إلى حل عادل للقضية الفلسطينية.
كل هذه الدلائل تؤكد أنه لا يجوز وبأي شكل من الأشكال بعد كل ما حصل في فلسطين واليوم في أوكرانيا أن نثق أو نعوّل على أي دور أو جهود أو وساطات أمريكية، فقد أصبح واضحاً أنه ليس هنالك أي آفاق للحل العادل للقضية الفلسطينية سوى انتصار روسيا على الناتو في أوكرانيا، وانتقال العالم إلى التعددية القطبية، وتفعيل الدور الأساسي والمطلوب للأمم المتحدة، واتخاذ قرار من قبل مجلس الأمن الدولي بتفعيل البند السابع واستخدام القوة العسكرية الأممية لقيام الدولة الفلسطينية المستقلة على جميع الأراضي الفلسطينية والتي أقرتها قرارات الأمم المتحدة بما في ذلك القدس الشريف عاصمة لفلسطين. وهذا ما سيحدث قريباً، وأما بخصوص ما تروج له الصهيونية العالمية وعلى رأسها إدارة واشنطن حول حرب نووية وشيكة تنوي روسيا شنها، فسوف لن تكون هناك أي مخاوف من نشوب صراع نووي لأن روسيا ومجموعة دول بريكس ودول معاهدة شانغهاي لن تسمح بذلك ولتكون الثقة بذلك عالية جدا فعجلة التاريخ لا يمكن أن تتراجع أبدا والعدالة ستتحقق عاجلا أم آجلا.