معاناة أسرة فلسطينية بعد احتراق أم وابنيها في مخيم دير البلح “تشاهدوننا نحترق وتلتزمون الصمت”
“سأل زميلُنا في بي بي سي محمد الدلو عن الأثر النفسي لرؤية أحبائه وهم يحترقون، فقال: (لا أستطيع وصف ذلك. لا أستطيع وصف شعوري. أريد أن أشرح ذلك للناس، لكنني لا أستطيع. لا أستطيع وصف ذلك. رأيت أخي يحترق أمامي، وأمي أيضاً). وبعدها، بدا وكأنه يطرح سؤالاً نيابة عن القتلى: (ماذا تحتاجون أكثر من ذلك؟! ما زلتم تلتزمون الصمت! تشاهدوننا نحترق، وتلتزمون الصمت!)”.
نشرت “بي.بي.سي” اليوم 20/10 الجاري تقريراً اخبارياً من أعداد “فيرغال كين” بالعنوان أعلاه، وكتب في مستهله عبارة: “تحذير: تحتوي هذه المقالة على تفاصيل صادمة للموت والإصابات“، حيث بدأ “لا ضمير. لا إنسانية. ليس هناك سوى قادة يراقبون ولا يتصرفون. هذا ما يعتقده أحمد الدلو، الذي يسترجع في ذهنه صور احتراق أفراد أسرته، قائلاً إن حياته قد انتهت حين استعر مخيم مستشفى شهداء الأقصى وقُتل ابناه وزوجته حرقاً في الساعات الأولى من صباح يوم الاثنين 14 أكتوبر/تشرين الأول بعد غارة إسرائيلية. سُجِّي أمامه على الأرض جسد أصغر أبنائه، عبد الرحمن، ذي الـ 12 عاماً، وهو ملفوف في كفنه. بقي هذا الطفل في عذاب لأربعة أيام بعد الحريق الذي تسببت فيه غارة إسرائيلية استهدفت ساحة مستشفى شهداء الأقصى، ما خلف حريقاً هائلاً في خيم النازحين ومرافق المستشفى، وأدى إلى احتراق جثث بعض النازحين بداخلها. في اليوم السابق لوفاته، رآه أحمد في المستشفى وتمكن من الحديث إلى والده قائلاً: “لا تقلق، أنا بخير يا أبي… أنا بخير. لا تخف!”. روى لي أحمد وهو يغالب دموعه، يبكي تارة ويتحدث تارة أخرى عما سُلب منه: “حاولت ثلاث مرات سحبه [عبد الرحمن] من بين ألسنة اللهب، لكنها عادت لتلتهم جسده مرة أخرى”. توفي شقيق عبد الرحمن الأكبر، شعبان الذي يبلغ 19 عاما، ووالدته آلاء ذات الـ 37 عاماً، في الحريق”.
وأضاف التقرير: “وأصبح شعبان رمزاً جديداً لمعاناة غزة الرهيبة؛ حيث انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي في أنحاء العالم صوره وهو يتلوى من الألم وهو يحترق حتى الموت في خيمة العائلة. كانت الحروق تغطي وجه أحمد ويديه، وهو يتحدث منتحباً بصوت عالٍ، عن الطيار المجهول الذي أرسل الصاروخ، والقادة الذين أعطوه الأوامر، قائلاً: “لقد حطموا قلبي، وحطموا روحي. أتمنى لو أن النار أحرقتني!”. وقعت الغارة في نحو الساعة 01:15 بالتوقيت المحلي فجر الاثنين الماضي (23:15 بتوقيت غرينتش يوم الأحد). وقال الجيش الإسرائيلي إنه كان يستهدف مركز “قيادة وسيطرة” لحماس في مجمع مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح، وسط قطاع غزة. وتنفي حماس أي وجود لها في المستشفيات. قُتل أربعة أشخاص على الفور وأصيب العشرات، العديد منهم مصابون بحروق شديدة. قالت القوات الإسرائيلية إنها “تنظر في الحادث”. ووصف متحدث باسم البيت الأبيض لشبكة سي بي إس نيوز، شريكة بي بي سي في الولايات المتحدة، لقطات الحريق بأنها “مزعجة للغاية”، ودعا إسرائيل إلى بذل المزيد من الجهود لحماية المدنيين. وقال: “تتحمل إسرائيل مسؤولية بذل المزيد من الجهود لتجنب وقوع إصابات بين المدنيين، وما حدث هنا مروع، حتى لو كانت حماس تعمل بالقرب من المستشفى في محاولة لاستخدام المدنيين كدروع بشرية”. وقد أعربت الولايات المتحدة ودول أخرى، من بينها بريطانيا، عن قلقها بشأن سقوط ضحايا من المدنيين، منذ المراحل الأولى من الحرب. في هذه الحرب، يحترق الناس حتى الموت، ويمزقون إلى أشلاء، ويطلق عليهم الرصاص كل يوم. في أغلب الأحيان، تحدث آلام الموت بعيداً عن عدسات الكاميرات، التي لا تلتقط سوى عمليات البحث الحثيثة عن الناجين بين الأنقاض، والمشاهد الدرامية في المستشفيات، والجنازات التي لا نهاية لها. ومع ذلك، فإن مقتل شعبان الدلو كان حالة مختلفة؛ حيث رصدت العدسات يداً تمتد من وسط الجحيم، لشخص يلتحف باللهب، يتلوى دون أن يجد المساعدة. في الأيام التي أعقبت مقتله، ظهرت مقاطع فيديو وصور خاصة بشعبان، الذي كان نموذجاً يُحتذى به بين أبناء جيله، مدركاً لقوة وسائل التواصل الاجتماعي، وكان يسجل يومياته بمهارة. خلف المراهق المحترق، برزت أمام العالم شخصية طالب هندسة البرمجيات الذكي المفوّه، الشاب الذي يعتني بأسرته ويخطط لحياة جديدة خارج غزة. وسجلت عدسات الكاميرا شعبان وهو يتبرع بالدم ويشجع الآخرين على فعل الشيء ذاته”.
وتابع: “لقد رأينا الكثير من الإصابات، والعديد من الأطفال في حاجة ماسة إلى الدم. كل ما نطالب به هو وقف إطلاق النار وإنهاء هذه المأساة”. لا نستطيع أن نروي قصة عائلة الدلو إلا بفضل صحفينا المحلي الذي ذهب للقاء الناجين؛ فإسرائيل لا تسمح للصحفيين الدوليين من المؤسسات الإعلامية، ومنها هيئة الإذاعة البريطانية، بالوصول المستقل إلى غزة. في مقطع فيديو جرى تسجيله في الخيمة التي قُتل فيها، وصف شعبان كيف نزحت أسرته خمس مرات منذ بدء الحرب قبل عام. كان لديه شقيقتان وشقيقان أصغر منه سناً. وقال شعبان: “نحن نعيش في ظروف في غاية الصعوبة، نعاني أموراً كثيرة كالتشرد، والغذاء المحدود، والأدوية المحدودة للغاية”. وقال محمد الدلو، شقيق شعبان وعبد الرحمن الناجي من الحريق، لبي بي سي، إنه حاول الخوض في النيران لإنقاذ شقيقه الأكبر، لكن مصابين آخرين حالوا دون ذلك، خوفاً من أن يُقتل هو أيضاً. لم ينم محمد تلك الليلة في خيمة الأسرة، بل في العراء في الشارع، حيث كان يراقب ممتلكات أسرته المكدسة أمامه. “كنت أصرخ في أحدهم ليتركوني، لكن دون جدوى. كانت ساق أخي محاصرة، ولم يتمكن من تحرير نفسه. أعتقد أنك شاهدت ذلك في الفيديو. كان يرفع يده”. وأضاف: “كان هذا أخي. كان سندي في الدنيا”. كان شعبان يأتيه لإيقاظه للصلاة في الصباح ومعه زجاجة ماء ويقول له: “أعمل من أجلك”. يتذكر محمد كيف صنع إخوته كشكاً عند أبواب المستشفى يبيعون فيه الطعام الذي تصنعه الأسرة. “كنا ندير كل شيء بفضل عملنا الجاد. كل ما حصلنا عليه كان ثمرة جهدنا. كنا نحصل على الطعام والشراب، ثم ضاع كل شيء”. رأى محمد الجثث المحترقة، لكنه لم يستطع التعرف إلا على والدته. ورغم أن بقاياها قد شوهتها النيران، إلا أنه تعرف على سوار مميز كانت ترتديه. “لولا ذلك، لما عرفت أنها أمي. كانت يدها مفصولة عن جسدها، لكن السوار كان لا يزال حول معصمها. نزعتُه من يدها”. هذه هي الذكرى الوحيدة التي بقيت في ذاكرته عن المرأة التي كانت (الطِّيبة في بيتنا)، كما قال. ولا تزال أسرة الدلو في حالة صدمة، والناجون ينعون قتلاهم”.
وخلص التقرير متسائلاً: “سأل زميلُنا في بي بي سي محمد الدلو عن الأثر النفسي لرؤية أحبائه وهم يحترقون، فقال: (لا أستطيع وصف ذلك. لا أستطيع وصف شعوري. أريد أن أشرح ذلك للناس، لكنني لا أستطيع. لا أستطيع وصف ذلك. رأيت أخي يحترق أمامي، وأمي أيضاً). وبعدها، بدا وكأنه يطرح سؤالاً نيابة عن القتلى قائلاً: (ماذا تحتاجون أكثر من ذلك؟! ما زلتم تلتزمون الصمت! تشاهدوننا نحترق، وتلتزمون الصمت!).